إضراب الثمانية أيام 28 جانفي – 4 فيفري 1957
يُعد إضراب الثمانية أيام من بين الأحداث الهامة والبارزة في تاريخ الثورة الجزائرية، فقد جاء تدعيما وتنفيذا لقرارات مؤتمر الصومام الرامية إلى تصعيد الكفاح العسكري والسياسي، مع ضرورة إشراك كافة فئات الشعب الجزائري بمختلف شرائحه في هذا النضال التحرري. لقد كان امتحانا عسيرا، إذ اقتضت ظروف الحرب أن تجد الجماهير الشعبية نفسها في مواجهة حاسمة وغير متكافئة مع المستعمر الفرنسي، لأن ما ميّز هذا الإضراب عن باقي الأحداث الثورية الأخرى أنه لم يكن مألوفا في مدته وشموليته داخل الوطن وخارجه.
- الظروف التي اتخذ فيها قرار الإضراب:
- أولا: على الصعيد الداخلي:
1- عرف الوضع العام في الجزائر قبيل الشروع في الإضراب، تطورات عسكرية وسياسية خطيرة انعكست سلبا على الجزائريين، نذكر منها تصعيد فرنسا الاستعمارية عمليات القمع ضد الجزائريين بمختلف الأنواع والأشكال، وبوسائل فتاّكة وفي غاية الوحشية ومنافية للقيم الانسانية.
2- تضليل الرأي العام الفرنسي والدولي بحقيقة القضية الجزائرية، فقد كان شعار جاك سوستيل “الجزائر جزء من فرنسا”، ولا مجال للحديث عن استقلالها.
3- إرضاء رغبات الكولون المتطرفين الذين ألحّوا في طلب إعدام مناضلي جبهة وجيش التحرير الوطنيين بعد أسرهم، فاستجاب لهم الوزير المقيم روبير لاكوست، الذي أقدم على تنفيذ أحكام الإعدام بواسطة آلة يرجع عهدها إلى القرون الوسطى وهي المقصلة.
- أولا: على الصعيد الخارجي:
1- اختطاف الطائرة المغربية بتاريخ 22 أكتوبر 1956 التي كان على متنها قادة الثورة التحريرية وهم: أحمد بن بلة، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، والكاتب مصطفى الأشرف.
2- شنّ عدوان ثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956 بمشاركة كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل إثر تأميم الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس الدولية. وجاء هذا العدوان أيضا لوضع حدّ للمساعدات المصرية للثورة الجزائرية على حد تعبير رئيس الحكومة الفرنسية في جانفي 1957 أمام مجلس الأمة بباريس بقوله:” أن رأس الثورة الجزائرية هو مصر، فبضرب الرأس تنتهي الثورة وتطمئن فرنسا على جزائرها”.
- قرار الإضراب والتحضير له:
تطبيقا لقرارات مؤتمر الصومام الرامية إلى تصعيد العمل الثوري والسياسي وإشراك كافة شرائح الشعب الجزائري في الثورة، اجتمع أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ (الهيئة التنفيذية للمجلس الوطني للثورة) في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر من عام 1956 وقرّروا شن إضراب عام في الجزائر، لمدة ثمانية أيام بهدف تدعيم مسعى الكتلة العربية – الآسيوية في الأمم المتحدة في العاشر ديسمبر 1956، فأصدرت التعليمات بحوالي شهر تقريبا قبل الموعد المحدّد، قصد إعطاء المهلة الكافية للقيام بالتحضيرات من أجل إنجاح هذا الإضراب. وبعدما تقرّر عقد الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 28 جانفي 1957، اتفق أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ على شنّ الإضراب العام لمدة ثمانية أيام بتاريخ 28 جانفي 1957 ابتداء من منتصف الليل إلى غاية 4 فيفري من نفس السنة.
لقد أوكلت لجنة التنسيق والتنفيذ مهمة التحضير إلى الولايات الستة، فشُكّلت عدة لجان داخل المصالح والمؤسسات مهمتها التوعية والتوجيه، مع دعوة السكان للتزوّد بالمؤونة طوال أيام الإضراب، وإيجاد الصيغ الكفيلة لمساعدة العائلات المحتاجة، وتوزيع المناشير والبيانات. كما شكّلت أيضا لجان خارجية على مستوى تجمعات الجزائريين في الخارج للمساهمة في إنجاح الإضراب. ومن قرارات لجنة التنسيق والتنفيذ، تكليف وحدات جيش التحرير الوطني بتكثيف الهجومات، ونصب الكمائن، وتصعيد عمليات التخريب للمنشآت العسكرية والاقتصادية الفرنسية.
ولإنجاح هذا الإضراب دعت المنظمات الوطنية أعضائها إلى الإضراب والاستعداد له بكل الإمكانيات. وقام الاتحاد العام للعمال الجزائريين بتوزيع المناشير على جميع الفروع النقابية في كل المؤسسات، ووزّع منشور خاص وُجّه إلى عمال الأقلية الأوروبية شرح فيه معاني هذه الحركة النضالية. ومن جهته قام اتحاد التجار بنفس العمل مع التجار والحرفيين وأرباب المصانع، وأشرف على تموين الأحياء الجزائرية بالمواد الضرورية احتياطا لهذا الإضراب غير المألوف.
أما جبهة التحرير الوطني، فقد وجّهت منشورا تاريخيا دعت فيه الشعب الجزائري إلى أن يبرهن أمام العالم عن عزمه على استرجاع استقلاله. ولقد أذيع تاريخ الثامن والعشرين من جانفي عبر “صوت العرب” من القاهرة، وانتشر عبر كامل أنحاء التراب الوطني، وفي فرنسا ذاتها بين أوساط الجالية الجزائرية المهاجرة، وكذا ممثلي الجبهة في كل من المغرب وتونس ومصر.
- سير الإضراب ورد الفعل الفرنسي:
انطلق الإضراب في وقته المحدّد، وشمل منذ اليوم الأول مختلف أنحاء القطر الجزائري، حيث اعتصم الجزائريون في بيوتهم، وتوقّفت مختلف الأنشطة في المدن استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني حتى بدت المدن كأنها ميّتة بعد أن أُغلقت محلاتها التجارية وهجرها أصحابها على حد وصف أحد الصحفيين لليوم الأول من الإضراب بمدينة الجزائر بقوله:”إنني لم أرى في حياتي مدينة يخيّم عليها شبح الموت في وضح النهار كمثال القصبة في إقفار شوارعها ورهبة السكون العميق النازل على دورها كأنّ سكانها في سبات عميق”. أما عن نسبة الاستجابة الشعبية للإضراب فتذكر الصحف الأجنبية وحتى الفرنسية المعاصرة للحدث، فقد بلغت 90 بالمائة، سواء في الإدارات والمصالح العمومية الرسمية مثل مصلحة البريد والسكك الحديدية ومختلف أنواع المواصلات أو في الأسواق العامة…
أما عن ردّ فعل الاستعمار الفرنسي فكان رهيبا، حيث جنّد إمكانيات مادية وعسكرية كبيرة مع استعمال كل الوسائل الوحشية لإحباط الإضراب، فأنشأت الإدارة الاستعمارية في أول الأمر إذاعة سرية مزيّفة سمتها (صوت الجزائر الحرة المجاهدة) لتقلّد إذاعة (صوت الجزائر الحرة المكافحة)، ومن خلالها تذيع بيانات وأوامر مزيّفة ومضادة لأوامر جيش وجبهة التحرير الوطنيين، وتؤكّد في برامجها أن الإضراب مناورة استعمارية يجب إحباطها. ومن التدابير الأخرى المتخذة لإفشال هذا الإضراب، توزيع مناشير مزيّفة على أوراق تحمل صورة العلم الوطني، زيادة على بلاغات رسمية يهددون فيها المضربين بإنزال أشد العقوبات.
ونظرا لشمولية الإضراب ونجاحه، سخّرت السلطات الاستعمارية والجيش الفرنسي مجموعة من التدابير والوسائل القمعية لإفشاله، تمثّلت في اقتحام الدكاكين والمحلات التجارية بتحطيم أقفال الأبواب بالقوة من قبل رجال المظلات بواسطة الفؤوس والمطرقات… ولم يتردّد في قنبلة المتاجر بواسطة الدبابات مثل ما حدث في بوفاريك، وإلقاء القبض على آلاف المواطنين واستنطاقهم بأبشع وسائل التعذيب، كما حُمل العمال بالقوة إلى مقر عملهم دون القيام بأي مهام، وأُرغم المعلمون على ملازمة قاعات التدريس بالرغم من غياب التلاميذ. وفي محاولة لإرجاع هؤلاء إلى مقاعد الدراسة سخّر الجيش مكبّرات الصوت لحث التلاميذ على الذهاب إلى المدارس، وعندما فشل في إقناع الآباء لإرجاع أبنائهم إلى المدارس، شرع في حمل الأطفال من الشوارع والأحياء وحتى من المنازل ، ونقلهم بواسطة الشاحنات العسكرية إلى أول مدرسة تصادفهم في الطريق، وأُلزموا الجلوس على المقاعد بطريقة عشوائية وفوضوية دون احترام الأطوار الدراسية.
ولم يكتف جنود الجيش الاستعماري بمداهمة منازل المواطنين خلال الإضراب ليلا ونهارا من أجل إجبار العمال والتجار والموظفين على التوجّه إلى أماكن عملهم، بل استعانوا بالأسلحة المختلفة للقيام بعملية تمشيط ومراقبة الأحياء الجزائرية في المدن الكبرى، وتنصيب الدبّابات عند مفترق الطرق، وعزل الأحياء بواسطة الأسلاك الشائكة.
- نتائج الإضراب:
خلّف إضراب الثمانية أيام نتائج متعدّدة نذكر منها:
– حشد الأمة الجزائرية كلها بدون استثناء للمشاركة في كفاح جماعي تحديًا لسلطات الاحتلال وقوته المدجّجة بمختلف الأسلحة بصموده وثباته.
– تحقيق القطيعة النهائية بين النظام الاستعماري الفرنسي وبين كل أفراد الشعب الجزائري.
– كان الإضراب بمثابه استفتاء، عبّر من خلاله الشعب الجزائري على تمسكه بقيادته الثورية، كممثل شرعي ووحيد له، وبذلك تعزّزت مكانة وسمعة جبهة التحرير الوطني داخليا وخارجيا.
– الانتصار السياسي في المجال الدولي، إذ تزامن هذا الإضراب مع عرض القضية الجزائرية على هيئة الأمم المتحدة ومناقشتها لفترة أكثر من عشرة أيام، تُوّجت بالتصويت على مشروع قرار متعلّق بالجزائر، إذ اعتبرت القضية الجزائرية من القضايا الدولية التي ينطبق عليها مبادئ ميثاق الأمم المتحدة في حق تقرير المصير، ولذا وجب على فرنسا أن تتجه في هذا الاتجاه لتسوية المشكلة الجزائرية بطرق سلمية عن طريق التفاوض، وبذلك تقوى موقف الثورة الجزائرية على المستويين الداخلي والخارجي ، وكُذّبت مزاعم الاستعمار الفرنسي الذي روّج بأن الوضع في الجزائر يسير نحو الاستقرار ، وأن القضية الجزائرية قضية داخلية لا شأن للأمم المتحدة النظر فيها.