القائمة الرئيسية

الصفحات

مظاهرات 17 أكتوبر 1961


إن اليوم الوطني للهجرة الذي يُصادف 17 أكتوبر من كل سنة هو حدث تاريخي يُخلّد كل عام،  ومردّ ذلك لما قدمته الجالية الجزائرية المهاجرة في فرنسا من  دعم للثورة في أحلك مراحلها  بالرغم من بعدها عن الوطن الأم، من خلال المظاهرات السلمية بباريس وضواحيها رغم الحظر المفروض آنذاك على المسلمين الجزائريين، طبقا  لتعليمات قياديي فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، الذين أقاموا دليلا قاطعا على إمكانية نقل الثورة داخل التراب الفرنسي، وتشتيت طاقة السلطات الفرنسية بهدف تخفيف الضغط على الشعب الجزائري الذي كان يعاني من حرب تدميرية. 

أسباب تنظيم المظاهرات:

         عيّن الجنرال شارل ديغول،  موريس بابون رئيسا على محافظة شرطة باريس، وهو على بيّنة من كفاءة هذا الرجل التي اكتسبها خلال وجوده في الجزائر كوالي على قسنطينة، وقدرته على كسر شوكة جبهة التحرير الوطني في العاصمة الفرنسية بحكم خبرته في الشؤون القمعية،  وهو في رأيه قادر على تطهير باريس من تنظيمات جبهة التحرير الوطني الموزّعة عبر كامل التراب الفرنسي أيضا التي أصبحت تشكّل جهازا قويا بكامل عدده وعدته، يهدّد أمنها ومصالحها الاستراتيجية. 

عُرف موريس بابون بعنصريته وبارتكابه لممارسات نازية، وقد مُنح الضوء الأخضر لتضييق الخناق على إطارات الفيدرالية والمنخرطين فيها، وقمع الجزائريين المتعاطفين مع جبهة التحرير الوطني في أقرب الآجال وبشتى الطرق.    ولتحقيق هذا الغرض تم تشكيل قوة إضافية من الشرطة تتمثل مهمتها في مراقبة وتوقيف الجزائريين المشتبه فيهم.  

تعود الأسباب المباشرة  لهذه المظاهرات إلى ما شهدته العاصمة باريس من أعمال قمع رهيبة ضد الجزائريين تمثّلت خاصة في التفتيش المباغت، والاعتقال التعسفي، والقهر والإذلال، حيث تمركز قسم كبير من قوات الأمن الفرنسية في الأماكن التي يتواجد بها الجزائريون وصبت جام غضبها وانتقامها عليهم، بل أنها أقامت لهم مركزا لا يقل فظاعة عن تلك التي أقامتها النازية.

         وفي 5 أكتوبر 1961 أصدر بابون قرار حظر التجول على الجزائريين في باريس وضواحيها ابتداء من الساعة الثامنة والنصف ليلا إلى غاية الخامسة والنصف صباحا، وخلالها عاشت فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا فترة حرجة من خلال الحملات الشرسة والرقابة الشديدة على الجزائريين وتنقلاتهم. ولم يكتف بابون بإصدار حظر التجول بل فرض قيودا على كل المقاهي والمطاعم التي يتردّد عليها الجزائريون وألزمها بالإغلاق على الساعة السابعة مساء.
وفي ظل القرارات التعسفية التي أصدرها محافظ الشرطة في باريس، والتي تجبر الجزائريين على ملازمة مساكنهم ابتداء من الساعة الثامنة مساء إلى غاية الخامسة والنصف صباحا، وهو قرار عنصري، لا يشمل  الفرنسيين ولا الجاليات الأخرى، زيادة على فرض القيود على كل المقاهي والمطاعم التي يتردّد عليها الجزائريون وإلزامها بالإغلاق على الساعة السابعة مساءً، قرّرت فيدرالية جبهة التحرير الوطني الردّ على تلك الممارسات القمعية ومواجهة قوانين وزير الداخلية “روجي فري” ومحافظ الشرطة “موريس بابون” خلال اجتماع كولونيا المنعقد في 10 أكتوبر 1961، وتمّ الاتفاق على تنظيم مظاهرة سلمية يوم 17 أكتوبر من نفس السنة لوقف حظر التجول المفروض على الجزائريين. وبعد الاجتماع أُرسلت التقارير إلى كافة المسؤولين لإعلامهم بالأمر، وأُعطيت التعليمات الصارمة على أن تكون المظاهرات سلمية، بحيث لا يحمل أي جزائري أي سلاح مهما كان نوعه.

التحضير للمظاهرات:

         استطاعت فيدرالية جبهة التحرير الوطني في مدة وجيزة من تعبئة المهاجرين الجزائريين المتواجدين بفرنسا من أجل القيام بمظاهرات ضد سياسة بابون العنصرية، وكانت العديد من الاتصالات قد تمّت بين مسؤولي الجبهة في المراكز المترامية الأطراف من أجل توحيد العمل وتسهيل تنقّل المهاجرين إلى باريس للقيام بالمسيرة التي استغرقت ثلاثة أيام كاملة. وبحسب رواية علي هارون القيادي في الفيدرالية فإن العملية قد خُطّط لها بدقة على أن يكون يوم 17 من أكتوبر هو خروج عام للمتظاهرين من باريس وضواحيها، وفي اليوم الموالي أي 18 هو إعلان التجار للإضراب العام من أجل التصعيد، في حين يكون اليوم الثالث هو خروج المرأة الجزائرية في مظاهرات أمام الإدارة والمحاكم والسجون، وتمّ الاتفاق على أن تكون المسيرات سلمية خالية من أي سلاح. وكانت التعليمات التي قدمتها الفيدرالية للمنظّمين هو الخروج إلى الشارع رغم الحظر المفروض عليهم.

        ارتكزت التعليمات على تحديد مراكز مهمة لسير المظاهرات، مثل ميدان الأوبرا بباريس والشوارع الكبرى، على أن تمر المسيرة بالأحياء الكبيرة مثل الحي اللاتيني ومنطقة سجن الباستيل لرمزيته وهو تحرير المساجين. وكانت شعارات المظاهرة محدّدة منها “الجزائر المستقلة” و”تحيا الجزائر” و”الحكم لجبهة التحرير الوطني”، وفي حالة تدخل قوات الشرطة للضغط على تفريق المتظاهرين، وقتها يكون الردّ الوحيد حرّروا المساجين، إلى جانب رفع العلم الجزائري في المسيرة من طرف المناضل “بن عريبي الحبيب” الذي توفي في اليوم الثاني من المظاهرات.

        وطبقا لتعليمات قيادة الثورة الجزائرية، تدعّمت المظاهرات السلمية بتنفيذ أكثر  من 56 عملية تخريب استهدفت المنشآت الفرنسية، وشُنّ حوالي 224 هجوما على مصالح الاستراتيجية، وكذا القيام بالتصفية الجسدية لبعض الخونة المناوئين للكفاح الثوري الذي يخوضه الشعب الجزائري.   

سير المظاهرات وردّ الفعل الفرنسي الوحشي:

في ليلة 17 أكتوبر 1961 المصادف ليوم الثلاثاء وفي جو ممطر استجابت الجالية الجزائرية بفرنسا لنداء فيدرالية جبهة التحرير الوطني، وخرج أكثر من 30 ألف متظاهر إلى الشوارع الرئيسية لمدينة باريس في هدوء مردّدين شعار “لا للتمييز العنصري”، “نعم لرفع حظر التجول”، “تحيا جبهة التحرير الوطني”، “الجزائر جزائرية” وغيرها من الشعارات الوطنية.  وقد وجدت الإدارة الفرنسية ضالتها في استغلال هذا الحدث ضد المهاجرين الجزائريين الذين لم يحترموا قرار الحظر، وجابهت الشرطة الفرنسية المقدر عددها بـ 7000 شرطي وثلاث وحدات وحاميتين من الفرقة الجمهورية للأمن ،  جموع المتظاهرين بأعمال وحشية، وبأبشع أنواع وسائل القمع من قنابل مسيلة للدموع والضرب بالهراوات  وإطلاق النار العشوائي دون تمييز، وتركت الكثير منهم في برك من الدماء من جراء الضرب بالعصي على الرؤوس ، كما  كانت أزقة المدينة مليئة بجثث المتظاهرين،  إذ تمّ  رمي الكثير منهم في نهر السين مكبلين اليدين والرجلين في نهر السين أمام مرأى بابون شخصيا، الذي أمر بردم جميع  الذين قتلوا في مقبرة “لاشاز” المقدّر عددهم بـ 300 شهيد ناهيك عن آلاف الجرحى.

ومن جهتها، قامت قوات الفرقة الجمهورية للأمن CRS باعتقال 12 ألف جزائري متظاهر وتسابقت عناصرها لضربهم بالهراوات بمجرد نزولهم من سيارات الشرطة، واقتيدوا بعدها  إلى ملعب “بيار دو كوبيرتان” ، أين قضوا خمسة أيام تحت وطأة القهر، والجوع والبرد. وحسب بعض الشهود ممن عايشوا الحدث فقد ظلت جثث الجزائريين تطفو على نهر السين طيلة ما تبقى من شهر أكتوبر، وتبيّن لاحقا “أن جثثا لجزائريين الذين  قتلوا في هذا التاريخ تمّ دفنها في بعض حدائق البيوت”، فيما تمّ ترحيل 1500 شخص إلى الجزائر. وتمادت السلطات الفرنسية في جرائمها بشنق الكثير من المتظاهرين في غابة فانسان بعد التعذيب والاستنطاق في مراكز الاعتقال.  كما وضعت الحواجز والمتاريس في الطرقات لمنع تدفق قوافل الجزائريين باتجاه المصالح الحكومية والدولية.

ولم تتوقف انتهاكات السلطات الفرنسية عند هذا الحد، بل تواصل بمطاردة الطلبة الجزائريين المتواجدين في فرنسا وأوقفت نشاطهم بين الجمعيات الأخرى القريبة من اهتماماتهم كجمعية طلبة المغرب العربي وجمعية الطلبة الفرنسيين وبعض جمعيات طلبة العالم خاصة الاشتراكي منه. كما وسّعت الشرطة الفرنسية من حملتها العدائية ضد الجزائريين المهاجرين بما فيها العائلات المقيمة ونفي الكثير منهم إلى خارج فرنسا فورا، فعلى سبيل المثال ففي 20 أكتوبر 1961 نُظّمت رحلات جوية باتجاه الجزائر لنقل المعتقلين، وظل الكثير منهم مفقودا، بحسب ما تقدم للدوائر الفرنسية من طلبات البحث التي تجاوزت 117 طلب يبحث أصحابها عن مصير أهاليهم، كما جرّدت الإدارة الفرنسية العديد من الجزائريين من ممتلكاتهم مثل المقاهي والفنادق وكانت في نظرها ملاجئ للجزائريين للتلاقي والتجمّع  لدعم الثورة الجزائرية، وقد بلغ عدد المفقودين قرابة 400، وأكثر من 11.538 من المعتقلين الذين حوّل العديد منهم إلى المحتشدات الموجودة في الجزائر. كما تمّ توقيف العديد من العمال عن ورشات عمل البناء وخاصة في باريس وضواحيها ونقلهم إلى الجزائر، والقيام بالتعتيم الإعلامي ومنع الصحافة من  التغطية لمجريات الأحداث المأساوية، وإعطائها الصورة المزوّرة بحيث قالت أن عدد الضحايا يتراوح ما بين 100 إلى 150 ضحية فقط، بل كتبت صحافة اليمين “كالصباح الباريسي” عن سقوط ضحيتين فقط في عملية تصفية حسابات بين مواطني بلدان شمال افريقيا، ومحاولة تطويق العاصمة باريس من قبل فيدرالية جبهة التحرير الوطني المتطرفة التي تعمل على عرقلة المفاوضات الفرنسية الجزائرية . 

ردود الأفعال:

أمام هذا المشهد المروّع الذي كان شوارع باريس ونهر السين مسرحا له، أشارت المصادر الإعلامية الفرنسية آنذاك إلى سقوط قتيلين وعدد من الجرحى فقط، إلى غاية ظهور تقرير رسمي نشرته صحيفة باريس أشار إلى سقوط حوالي 30 قتيلا. أما الصحافة الفرنسية المستقلة والحرة التي تناولت الأحداث، لم تنقل الحدث بموضوعية وصدق ولم تشر إلى عمليات التعذيب والقتل العشوائي، وأهملت أيضا شهادات الذين عايشوا الحدث. واستنادا لما أوردته جريدة les temps modernes   التي صادرتها مصالح الرقابة الفرنسية فور نشرها في عددها الصادر في أول نوفمبر 1961 حيث كتبت مقالا تناولت فيه مقارنة أحداث 17 أكتوبر 1961 بعمليات اعتقال اليهود في عهد حكومة فيشي.

         ورغم تستّر السلطات الاستعمارية عن هذه الجرائم ،  فإن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 عزّزت النضال وأكّدت مدى تلاحم الشعب مع ثورته داخليا وخارجيا، كما شارك المهاجرون في فضح السياسة الاستعمارية بالجزائر عن طريق وسائل الإعلام الدولية، كما أكسبت هذه الأحداث القضية الجزائرية أنصارا كثيرين لدعم الثورة سياسيا وإعلاميا وماديا والدفاع عن المساجين وفضح ممارسات المستعمر الفرنسي، وهو ما ساهم بالتعجيل في مفاوضات إيفيان الثانية التي وضعت حلا نهائيا للقضية الجزائرية.